فصل: مناسبة الآيات لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بهذا بعثت، إنما جئتكم من عند الله بما بعثني به، فقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم. فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم. قالوا: فإن لم تفعل لنا فخر لنفسك فاسأل ربك أن يبعث ملكًا يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك، وتسأله أن يجعل لك جنانًا وكنوزًا وقصورًا من ذهب وفضة ويغنيك عما نراك تبتغي- فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه- حتى نعرف منزلتك من ربك إن كنت رسولًا كما تزعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أنا بفاعل.. ما أنا بالذي يسأل ربه هذا.. وما بُعثتُ إليكم بهذا، ولكن الله بعثني بشيرًا ونذيرًا، فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة؛ وإن تردوه عليّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم. قالوا: فأسقط السماء كما زعمت أن ربك إن شاء فعل، فانا لن نؤمن لك إلا أن تفعل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك إلى الله إن شاء فعل بكم ذلك. قالوا: يا محمد، قد علم ربك أنا سنجلس معك ونسألك عما سألناك ونطلب منك ما نطلب، فيتقدم إليك ويعلمك ما تراجعنا به ويخبرك بما هو صانع في ذلك بنا إذا لم نقبل منك ما جئتنا به، فقد بلغنا أنه إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له الرحمن، وإنا والله لا نؤمن بالرحمن أبدًا فقد أعذرنا إليك يا محمد أما والله لا نتركك وما فعلت بنا حتى نهلكك أو تهلكنا. وقال قائلهم: لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلًا. فلما قالوا ذلك، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم وقام معه عبد الله بن أبي أمية فقال: يا محمد، عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم، ثم سألوك لأنفسهم أمورًا ليعرفوا بها منزلتك عند الله فلم تفعل ذلك، ثم سألوك أن تعجل ما تخوفهم به من العذاب. فوالله ما أؤمن لك أبدًا حتى تتخذ إلى السماء سلمًا ثم ترقى فيه وأنا أنظر، حتى تأتيها وتأتي معك بنسخة منشورة معك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول، وايم الله لو فعلت ذلك لظننت أني لا أصدقك. ثم انصرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله حزينًا أسفًا لما فاته مما كان طمع فيه من قومه حين دعوه، ولما رأى من متابعتهم إياه. وأنزل عليه فيما قال له عبد الله بن أبي أمية: {وقالوا لن نؤمن لك...} إلى قوله: {بشرًا رسولًا} وأنزل عليه في قولهم لن نؤمن بالرحمن {كذلك أرسلناك في أمة قد خلت....} [الرعد: 30] الآية. وأنزل عليه فيما سأله قومه لأنفسهم من تسيير الجبال وتقطيع الجبال، وبعث من مضى من آبائهم الموتى {ولو أن قرآنًا سيرت به الجبال....} [الرعد: 31] الآية.
وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن سعيد بن بن جبير رضي الله عنه في قوله: {وقالوا لن نؤمن لك} قال: نزلت في أخي أم سلمة، عبد الله بن أبي أمية.
وأخرح ابن جرير عن إبراهيم النخعي رضي الله عنه، أنه قرأ {حتى تفجر لنا} خفيفة.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم، عن قتادة رضي الله عنه في قوله: {حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعًا} أي ببلدنا هذا.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر، عن مجاهد رضي الله عنه في قوله: {ينبوعًا} قال: عيونًا.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي رضي الله عنه قال: الينبوع، هو الذي يجري من العين.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {أو تكون لك جنة من نخيل وعنب} يقول: ضيعة.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفًا} قال: قطعًا.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {أو تأتي بالله والملائكة قبيلًا} قال: عيانًا.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {أو يكون لك بيت من زخرف} قال: من ذهب.
وأخرج أبو عبيد في فضائله وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في المصاحف وأبو نعيم في الحلية، عن مجاهد رضي الله عنه قال: لم أكن أحسن ما الزخرف حتى سمعتها في قراءة عبد الله {أو يكون لك بيت من زخرف} قال: من ذهب.
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة رضي الله عنه قال: الزخرف، الذهب.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن مجاهد رضي الله عنه في قوله: {حتى تنزل علينا كتابًا نقرؤه} قال: من عند رب العالمين إلى فلان بن فلان، يصبح عند كل رجل منا صحيفة عند رأسه موضوعة يقرؤها. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94)}.
قوله تعالى: {أَن يؤمنوا}:
{أَنْ يُؤْمِنُوا} مفعولٌ ثانٍ ل {مَنَع}، أي ما مَنَعَهم إيمانَهم أو مِنْ إيمانهم، و{أنْ قالوا} هو الفاعلُ، و{إذ} ظرفٌ ل {مَنَعَ} والتقدير: وما مَنَعَ الناسَ من الإِيمانِ وقتَ مجيءِ الهُدى إياهم إلا قولُهم {أَبَعَثَ الله}.
وهذه الجملةُ المنفيَّةُ يُحتمل أَنْ تكونَ مِنْ كلام الله، فتكونَ مستأنفةً، وأن تكونَ مِنْ كلامِ الرسولِ فتكونَ منصوبةَ المحلِّ لاندراجِها تحت القولِ في كلتا القراءتين.
قوله: {بَشَرًا رَّسُولًا} كما تقدَّم مِنَ الوجهين في نظيره، وكذلك قوله: {لَنَزَّلْنَا [عَلَيْهِم] مِّنَ السمآء مَلَكًا رَّسُولًا}.
{قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95)}.
قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِي الأرض}: يجوز في {كان} هذه التمامُ، أي: لو وُجِد وحَصَل، و{يمشون} صفةٌ ل {ملائكةٌ} و{فِي الأرض} متعلقٌ به، و{مطمئنين} حالٌ من فاعل {يَمْشُون}. ويجوز أن تكونَ الناقصةَ، وفي خبرها أوجهٌ، أظهرُها: أنه الجارُّ، و{يَمْشُون} و{مطمئنين} على ما تقدَّم. وقيل: الخبر {يَمْشُون} و{فِي الأرض} متعلِّق به. وقيل: الخبرُ {مطمئنين} و{يَمْشُون} صفةٌ. وهذان الوجهان ضعيفان لأنَّ المعنى على الأول. اهـ.

.تفسير الآيات (97- 100):

قوله تعالى: {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100)}.

.مناسبة الآيات لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما تقدم أنه سبحانه وتعالى أعلم بالمهتدي والضال، وكان ختم هذه الآية مرشدًا إلى أن المعنى: فمن علم منه بجوابه قابلية للخير وفقه للعمل على تلك المشاكلة، ومن علم منه قابلية للشر أضله، عطف عليه قوله تعالى: {ومن يهد الله} أي الذي له الأمر كله لأنه لا شريك له، بخلق الهداية في قلبه، وأشار إلى قلة المهتدي على طريقة الإحسان بإفراد ضميره، وإلى كثرة الضال بجمعه فقال تعالى: {فهو} أي لا غيره {المهتد} لا يمكن أحدًا غيره أن يضله {ومن يضلل} فهو الضال لا هادي له، وذلك معنى قوله تعالى: {فلن تجد لهم} أي للضالين {أولياء} أي أنصارًا في هذه الدنيا {من دونه} يهدونهم ولا ينفعونهم بشيء أراد الله غيره، ولذلك نفوا أصلًا ورأسًا، لأنهم إذا انتفى نفعهم كانوا كالعدم، وإذا انتفى على الجمع انتفى عن المفرد من باب الأولى؛ فالآية من الاحتباك: خبر الأول يدل على حذف ضده ثانيًا، ونتيجة الثاني تدل على حذف ضدها من الأول.
ولما كان يوم الفصل يومًا يظهر فيه لكل أحد في كل حالة من عظمته تعالى ما يضمحل معه كل عظمة قال تعالى: {ونحشرهم} بنون العظمة أي نجمعهم بكره {يوم القيامة} أي الذي هو محط الحكمة {على وجوههم} يمشون أو مسحوبين عليها إهانة لهم فيها كما لم يذلوها بالسجود لنا {عميًا وبكمًا وصمًا} كما كانوا في الدنيا لا ينتفعون بأبصارهم ولا نطقهم ولا أسماعهم، بل يكون ضررًا عليهم لما ينظرون من المعاطب، ويسمعون من المصائب، وينطقون به من المعايب؛ قال الرازي في اللوامع إذ يحشر المرء على ما مات عليه، فلم يكن له في الآخرة شيء إلا حصل أوله ومبدأه في الدنيا وتمامه في الآخرة- انتهى.
ولما كان المقام للانتقال من مقام إلى آخر، قدم البصر لأنه العمدة في ذلك، وثنى بالنطق لأنه يمكن الأعمى الاسترشاد، وختم بالسمع لأنه يمكن معه وحده نوع رشاد، وعطفها بالواو إن كان لتشريك الكل في كل من الأوصاف فللتهويل، لأن المتكلم إذا نطق بالعاطف ظن السامع الانتقال إلى شيء آخر، فإذا أتى بالوصف كان أروع للعلم بأن صاحبه عريق فيه، لما تقدم في براءة، وإن كان للتنويع فلتصويرهم بأقبح صورة من حيث إنه لا ينتفع فريق منهم بالآخر كبير نفع، فكأنه قيل: إلى أيّ مكان يحشرون؟ فقال تعالى: {مأواهم جهنم} تستعر عليهم وتتجهمهم، كل واحد منهم يقاسي عذابها وحده وإن كان وجهه إلى وجه صاحبه، لأنه لا يدرك سوى العذاب للختم على مشاعره، فيا طولها من غربة! ويا لها من كربة! فكأنه قيل: هل يفتر عنهم عذابها؟ فقيل: لا بل هم كل ساعة في زيادة، لأنها {كلما خبت} أي أخذ لهبها في السكون عند إنضاجها لجلودهم {زدناهم} أي بما لنا من العظمة {سعيرًا} بإعادة الجلود؛ ثم بين علة تعذيبهم ليرجع منهم من قضى بسعادته فقال تعالى: {ذلك} أي العذاب العظيم {جزاؤهم بأنهم} أهل الضلالة {كفروا بآيتنا} القرآنية وغيرها، مع ما لها من العظمة بنسبتها إلينا، وكانوا كل يوم يزدادون كفرًا، وهم عازمون على الدوام على ذلك ما بقوا {وقالوا} إنكارًا لقدرتنا {إذا كنا عظامًا ورفاتًا} ممزقين في الأرض؛ ثم كرروا الإنكار كأنهم على ثقة من أمرهم هذا الذي بطلانه أوضح من الشمس بقولهم: {أإنا لمبعوثون} أي ثابت بعثنا {خلقًا جديدًا} فنحن نريهم جزاء على هذا الإنكار المكرر الخلق الجديد في جلودهم مكررًا كل لحظة: {كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودًا غيرها ليذوقوا العذاب} [النساء: 56] ثم أتبعه بقاطع في بيان جهلهم فقال منبهًا على أنهم أولى بالإنكار عاطفًا على ما تقديره: ألم يروا أن الله الذي ابتدأ خلقهم قادر على أن يعيدهم {أو لم يروا} أي يعلموا بعيون بصائرهم علمًا هو كالرؤية بعيون أبصارهم لما قام عليه من الدلائل، ونادى بصحته من الشواهد الجلائل {أن الله} أي الملك الأعلى المحيط بكل شيء قدرة وعلمًا لا غيره {الذي خلق السماوات} جمعها لما دل على ذلك من الحسن، ولما لم يكن للأرض مثل ذلك أفردها مريدًا الجنس الصالح للجمع فقال تعالى: {والأرض} على كبر أجرامها، وعظم أحكامها، وشدة أجزائها، وسعة أرجائها، وكثرة ما فيها من المرافق والمعاون التي يمزقها ويفنيها ثم يجددها ويحييها {قادر على أن يخلق} أي يجدد في أي وقت أراد {مثلهم} بدءًا فكيف بالإعادة وهم أضغف أمرًا وأحقر شأنًا {و} أنه {جعل لهم أجلًا} لعذابهم أو موتهم أو بعثهم لأنه معلوم في نفسه {لا ريب فيه} بوجه من الوجوه لما تكرر لهم من مشاهدة أنه لا تؤخر نفس إذا جاء أجلها، وكذا لا تقدم على أجلها، فكم ممن اجتهد الضراغمة الأبطال وفحول الرجال في ضره أو قتله؛ وهم قاطعون أنه في قبضتهم فلم يقدروا على ذلك، ثم كان ذلك بأضعف الناس أو بأوهى سبب فعلم بذلك أنه المنفرد بالقدرة على الإيجاد والإعدام {فأبى} أي بلى قد علموا ذلك علمًا كالمحسوس المرئي فتسبب عن ذلك السبب للإيمان أن أبوا- هكذا كان الأصل فأظهر تعميمًا وتعليقًا بالوصف فقال: {الظالمون} أي أبى هؤلاء المتعنتون لظلمهم {إلا كفورًا} أي جحودًا لعدم الشركة.
ولما قدم في هذه السورة أنه هو المعطي وأن عطاءه الجم- الذي فات الحصر، وفضل عن الحاجة، وقامت به الحجة على العباد في تمام قدرته وكمال علمه- غير محظور عن أحد، وأنهم يقتلون أولادهم مع ذلك خشية الإملاق، وهم يطلبون أن يظهر لهم من جنس ما خلق من الينابيع والجنات والذهب والزخرف على كيفيات مخصوصة لغير حاجة ما تقدم ذكره، وقد امتنعوا بخلًا وأنفة وجهلًا عن الاعتراف له بما أوجبه عليهم شكرًا لنعمته، واستدفاعًا لنقمته، بعد قيام الدلائل وزوال الشبه فلا أبخل منهم لأنهم بخلوا مما يجب عليهم من الكلام كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «أبخل الناس من بخل بالسلام» أمره أن ينبههم على سفههم في ذلك بقوله تعالى: {قل لو}.
ولما كان من حق {لو} الدخول على الأفعال، علم أن بعدها فعلًا من جنس ما بعد تقديره: تملكون ولكنه حذفه وفصل الضمير لأن المقصود الحكم عليهم بادىء بدء فقال تعالى: {أنتم} أي دون غيركم {تملكون خزائن} عبر بصيغة منتهى الجموع، لأن المقام جدير المبالغة {رحمة} أي إرزاق وإكرام {ربي} المحسن إليّ بإيتائي جميع ما ثبت أمري وأوضحه، وهي مقدوراته التي يرحم بها عباده بإضافتها عليهم {إذًا لأمسكتم} أي لوقع منكم الإمساك عن الإنفاق في بعض الوجوه التي تحتاجونها {خشية} عاقبة {الإنفاق} أي الموصل إلى الفقر، ثم استدل على صحة هذا المفروض بالمشاهد من مضمون قوله تعالى: {وكان} أي جبلة وطبعًا {الإنسان} أي الذي من شأنه الإنس بنفسه، فهو لذلك لا يعقل الأمور حق عقلها {قتورًا} أي بخيلًا ممسكًا غاية الإمساك لإمكان أن يكون فقيرًا فلا تراه إلا مضيقًا في النفقة على نفسه، ومن تلزمه نفقته، شديدًا في ذلك وإن اتسعت أحواله، وزادت على الحد أمواله، لما فيه من صفة النقص اللازمة بلزوم الحاجة له، طبع على ذلك فهو في غريزته بالقوة، فكلهم يفعله إلا من وفقه الله تعالى فغلب عقله على هواه وقليل ما هم! أي فإذا كان هذا أمركم فيما تملكونه مع الحاجة إلى الوجوه المنفق فيها فكيف تطلبون من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما لا يملكه، ولا ادعى القدرة عليه؟ أو من الخالق الحكيم أن يفعل ما تتعنتون به عبثًا بغير حاجة أصلًا، لأنه إن كان لإثبات قدرته فأنتم لا تمترون فيها، وإن كان لإثبات رسالة نبيكم فقد ثبت بأمور أعظمها هذا القرآن الذي مر آنفًا إقامة الدليل عليها به، وهتك أستار شبهتكم في استبعاد كون الرسول بشرًا، والله تعالى قد أكرمكم بنبيكم عن أن يعاجلكم بالاستئصال عند العصيان بعد كشف الغطاء كما جرت به سنته في جميع الأمم، وإن كان لإثبات غناكم فهو شيء لا يغني نفوسكم فيردها عن طلب المزيد وعن التقتير لما طبعتم عليه.
بل تكونون عند حصول ذلك لكم لحصول الغنى كالمستجير من الرمضاء بالنار، وهو قد قضى أنه يظهر أمره على كل من ناواه وإن كره الكافرون، وقد علم من يؤمن فييسر له الإيمان ويجعله عونًا لحزب الرحمن، ومن لا يؤمن فهو يجعله مع أولياء الشيطان، ويذيق الكل الهوان، ويجعلهم وقودًا للنيران، فلم يبق بعد هذا كله في إجابتكم إلى تعنتكم إلا العبث الذي هو سبحانه متعال عنه، فلا وجه يحصل به الإنسان الغني إلا اتباع السنة والانسلاخ عن الهوى، فمن وصل إلى ذلك استوى عنده الذهب والحصباء. اهـ.